كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقرأ حفص عن عاصم وفرقة بإظهار النون من غير، والجمهور على إخفائها.
واختلف في إعرابه فقيل على القول بأن كل حرف من اسم من أسمائه تعالى لا محل لشيء من ذلك ولا للمجموع من الأعراب، وقيل: إن كل حرف على نية الاتمام خبر لمبتدأ محذوف أي هو كاف هو هاد وهكذا أو الأول على نية الاتمام كذلك والبواقي خبر بعد خبر.
وعلي ما روى عن الربعي قيل: هو منادي وهو اسم من أسمائه تعالى معناه الذي يجير ولا يجار عليه.
وقيل لا محل له من الأعراب أيضًا وهو كلمة تقال في موضع نداء الله تعالى بذلك العنوان مثل ما يقال مهيم في مقام الاستفسار عن الحال وهو كما ترى، وعلى القول بأنه حروف مسرودة على نمط التعديد قالوا: لا محل له من الإعراب؛ وقوله تعالى: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبّكَ} على هذه الأقوال خبر مبتدأ محذوف أي هذا المتلو {ذُكِرَ}.. إلخ. ويقال على الأخير المؤلف من جنس هذه الحروف المبسوطة مرادًا به السورة {ذُكِرَ} إلخ. وقيل مبتدأ خبره محذوف أي فيما يتلى عليك {ذُكِرَ}.. إلخ، وعلى القول بأنه اسم للسورة قيل محله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هذا كهيعص أي مسمى به.
وإنما صحت الإشارة إليه مع عدم جريان ذكره لأنه باعتبار كونه على جناح الذكر صار في حكم الحاضر المشاهد كما قيل في قولهم هذا ما اشترى فلان.
وفي {ذُكِرَ} وجهان كونه خبرًا لمبتدأ محذوف وكونه مبتدأ خبره محذوف.
وقيل محله الرفع على أنه مبتدأ و{ذُكِرَ}.. إلخ. خبره أي الممى به ذكر.. إلخ. فإن ذكر ذلك لما كان مطلع السورة الكريمة ومعظم ما انطوت هي عليه جعلت كأنها نفس ذكره أو الإسناد باعتبار الاشتمال أو هو بتقدير مضاف أي ذو ذكر.. إلخ. أو بتأويل مذكور فيه رحمة ربك، وعلى القول بأنه اسم للقرآن قيل المراد بالقرآن ما يصدق على البعض ويراد به السورة والإعراب هو الاعراب وحينئذ لا تقابل بين القولين.
وقيل المراد ما هو الظاهر وهو مبتدأ خبره {ذُكِرَ}.. إلخ. والإسناد باعتبار الاشتمال أو التقدير أو التأويل؛ وقوله تعالى: {عَبْدِهِ} مفعول لرحمة ربك على أنها مفعول لما أضيف إليه وهي مصدر مضاف لفاعله موضوع هكذا بالتاء لا أنها للوحدة حتى تمنع من العمل لأن صيغة الوحدة ليست الصيغة التي اشتق منها الفعل ولا الفعل دال على الوحدة فلا يعمل المصدر لذلك عمل الفعل إلا شذوذًا كما نص عليه النحاة.
وقيل مفعول للذكر على أنه مصدر أضيف إلى فاعله على الاتساع.
ومعنى ذكر الرحمة بلوغها وإصابتها كما يقال ذكرني معروفك أي بلغني.
وقوله عز وجل: {زَكَرِيَّا} بدل منه بدل كل من كل أو عطف بيان له أو نصب بإضمار أعني.
وقوله تعالى شأنه: {إِذْ نادى رَبَّهُ} ظرف لرحمة ربك وقيل لذكر على أنه مضاف لفاعله لا على الوجه الأول لفساد المعنى وقيل: هو بدل اشتمال من {زَكَرِيَّا} [مريم: 2] كما قوله تعالى: {واذكر في الكتاب مَرْيَمَ إِذِ انتبذت مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًا} [مريم: 16].
وقرأ الحسن وابن يعمر كما حكاه أبو الفتح {ذُكِرَ} [مريم: 2] فعلًا ماضيًا مشددًا و{رَحْمَةً} بالنصب على أنه كما في البحر مفعول ثان لذكر والمفعول الأول محذوف و{عَبْدِهِ} مفعول لرحمة وفاعل {ذُكِرَ} ضمير القرآن المعلوم من السياق أي ذكر القرآن الناس أن رحم سبحانه عبده، ويجوز أن يكون الفاعل ضميره عز وجل أي ذكر الله تعالى الناس ذلك، وجوز أن يكون {رَحْمَةِ رَبّكَ} مفعولًا ثانيًا والمفعول الأول هو {عَبْدِهِ} والفاعل ضميره سبحانه أي ذكر الله تعالى عبده رحمته أي جعل العبد يذكر رحمته وإعراب {زَكَرِيَّا} كما مر، وجوز أن يكون مفعولًا لرحمة والمراد بعده الجنس كأنه قيل ذكر عباده رحمته زكريا وهو كما ترى، ويجوز على هذا أن يكون الفاعل ضمير القرآن، وقيل يجوز أن يكون الفاعل ضميره تعالى والرحمة مفعولًا أولًا و{عَبْدِهِ} مفعولًا ثانيًا ويرتكب المجاز أي جعل الله تعالى الرحمة ذاكرة عبده، وقيل: {رَحْمَةً} نصب بنزع الخافض أي ذكر برحمة، وذكر الداني عن أبي يعمر أنه قرأ {ذُكِرَ} على الأمر والتشديد و{رَحْمَةً} بالنصب أي ذكر الناس رحمة أو برحمة ربك عبده زكريا.
وقرأ الكلبي {ذُكِرَ} فعلًا ماضيًا خفيًا و{رَحْمَةِ رَبّكَ} بالنصب على المفعولية لذكر و{عَبْدِهِ} بالرفع على الفاعلية له.
وزكريا عليه السلام من ولد سليمان بن داود عليهما السلام، وأخرج الحاكم وصححه عن ابن مسعود أنه آخر أنبياء بني إسرائيل وهو ابن آزر بن مسلم من طرية يعقوب، وأخرج إسحاق بن بشر وابن عساكر عن ابن عباس أنه ابن دان وكان من أبناء الأنبياء الذين يكتبون الوحي في بيت المقدس، وأخرج أحمد وأبو يعلى والحاكم وصححه وابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعًا «أنه عليه السلام كان نجارًا» وجاء في اسمه خمس لغات:
أولها: المد.
وثانيها: القصر وقرئ بهما في السبع.
وثالثها: زكرى بتشديد الياء.
ورابعها: زكرى بتخفيفها.
وخامسها: زكر كقلم وهو اسم أعجمي.
والنداء في الأصل رفع الصوت وظهوره وقد يقال لمجرد الصوت بل لكل ما يدل على شيء وإن لم يكن صوتًا على ما حققه الراغب، والمراد هنا إذ دعا ربه {نِدَاء} أي دعاء {خَفِيًّا} مستورًا عن الناس لم يسمعه أحد منهم حيث لم يكونوا حاضرين. وكان ذلك على ما قيل في جوف الليل، وإنما أخفى دعاء عليه السلام لأنه أدخل في الإخلاص وأبعد عن الرياء وأقرب إلى الخلاص عن لائمة الناس على طلب الولد لتوقفه على مبادي لا يليق به تعاطيها في أوان الكبر والشيخوخة وعن غائلة مواليه، وعلى ما ذكرنا لا منافاة بين النداء وكونه خفيًا بل لا منافاة بينهما أيضًا إذا فسر النداء برفع الصوت لأن الخفاء غير الخفوت ومن رفع صوته في مكان ليس بمرأى ولا مسمع من الناس فقد أخفاه، وقيل: هو مجاز عن عدم الرايء أي الإخلاص ولم ينافه النداء بمعنى رفع الصوت لهذا.
وفي (الكشف) أن الأشبه أنه كناية مع إرادة الحقيقة لأن الخفاء في نفسه مطلوب أيضًا لكن المقصود بالذات الإخلاص، وقيل مستورًا عن الناس بالمخافة، ولا منافاة بناء على ارتكاب المجاز أو بناء على أن النداء لا يلزمه رفع الصوت ولذا قيل: (يا من ينادي بالضمير فيسمع) وكان نداؤه عليه السلام كذلك لما مر آنفًا أو لضعف صوته بسبب كبره كما قيل الشيخ صوته خفات وسمعه تارات، قيل: كان سنه حينئذ ستين سنة، وقيل خمسًا وستين، وقيل سبعين، وقيل خمسًا وسبعين، وقيل ثمانين، وقيل خمسًا وثمانين، وقيل اثنتين وتسعين، وقيل تسعًا وتسعين، وقيل مائة وعشرين وهو أوفق بالتعليل المذكور.
وزعم بعضهم أنه أشير إلى كون النداء خفيًا ليس فيه رفع بحذف حرفه في قوله تعالى: {قَالَ رَبّ} والجملة تفسير للنداء وبيان لكيفيته فلا محل لها من الإعراب {إِنّى وَهَنَ العظم مِنّى} أي ضعف، وإسناد ذلك إلى العظم لما أنه عماد البدن ودعام الجسد فإذا أصابه الضعف والرخاوة تداعى ما وراءه وتساقطت قوته؛ ففي الكلام كناية مبنية على تشبيه مضمر في النفس أو لأنه أشد أجزاء صلابة وقوامًا وأقلها تأثرًا من العلل فإذا وهن كان ما وراءه أوهن، ففي الكلام كناية بلا تشبيه، وأفرد على ما قاله العلامة الزمخشري وارتضاه كثير من المحققين لأن المفرد هو الدال على معنى الجنسية والقصد إلى أن هذا الجنس الذي هو العمود والقوام وأشد ما تركب منه الجسد قد أصابه الوهن ولو جمع لكان القصد إلى معنى آخر وهو أنه لم يهن منه بعض عظامه ولكن كلها حتى كأنه وقع من سامع شك في الشمول والإحاطة لأن القيد في الكلام ناظر إلى نفي ما يقابله وهذا غير مناسب للمقام، وقال السكاكي: إنه ترك جمع {العظام} إلى الإفراد لطلب شمول الوهن العظام فردًا فردًا ولو جمع لم يتعين ذلك لصحة وهنت العظام عند حصول الون لبعض منها دون كل فرد وهو مسلك آخر مرجوح عند الكثير وتحقيق ذلك في موضعه، وعن قتادة أنه عليه السلام اشتكى سقوط الأضراس ولا يخفى أن هذا يحتاج إلى خبر يدل عليه فإن انفهامه من الآية مما لا يكاد يسلم، و{مِنّي} متعلق بمحذوف هو حال من العظم، ولو يقل عظمي مع أنه أخصر لما في ذلك من التفصيل بعد الإجمال ولأنه أصرح في الدلالة على الجنسية المقصودة هنا، وتأكيد الجملة لإبراز كمال الاعتناء بتحقيق مضمونها.
وقرأ الأعمش {وَهَنَ} بكسر الهاء، وقرئ بضمها أيضًا {واشتعل الرأس شَيْبًا} شبه الشيب في البياض والإنارة بشواظ النار وانتشاره في الشعر وفشوه فيه وأخذه منه كل مأخذ باشتعالها ثم أخرجه مخرج الاستعارة، ففي الكلام استعارتان تصريحية تبعية في {اشتعل} ومكنية في الشيب، وانفكاكها عن التخييلية مما عليه المحققون من أهل المعاني على أنه يمكن على بعد القول بوجود التخييلية هنا أيضًا.
وتكلف بعضهم لزعمه عدم جواز الانفكاك وعدم ظهور وجود التخييلية إخراج ما في الآية مخرج الاستعارة التمثيلية وليس بذاك، وأسند الاشتعال إلى محل الشعر ومنبته وأخرج مخرج التمييز للمبالغة وإفادة الشمول فإن إسناد معنى إلى ظرف ما اتصف به زمانيًا أو مكانيًا يفيد عموم معناه لكل ما فيه في عرف التخاطب فقولك: اشتعل بيته نارًا يفيد احتراق جميع ما فيه دون اشتعل نار بيته.
وزعم بعضهم أن {الولدان شِيبًا} نصب على المصدرية لأن معنى {واشتعل الرأس} شاب، وقيل هو حال أي شائبًا وكلا القولين لا يرتضيهما كامل كما لا يخفى، واكتفى باللام عن الإضافة لأن تعريف العهد المقصود هنا يفيد ما تفيده، ولما كان تعريف {العظام} السابق للجنس كما علمت لم يكتف به وزاد قوله: {مِنّي} وبالجملة ما أفصح هذه الجملة وأبلغها، ومنها أخذ ابن دريد قوله:
واشتعل المبيض في مسوده ** مثل اشتعال النار في جزل الغضاء

وعن أبي عمرو أنه أدغم السين في الشين {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيًّا} أي لم أكن بدعائي إياك خائبًا في وقت من أوقات هذا العمر الطويل بل كلما دعوتك استجبت لي، والجملة معطوفة على ما قبلها، وقيل حال من ياء المتكلم إذ المعنى واشتعل رأسي وهو غرب، وهذا توسل منه عليه السلام بما سلف منه تعالى من الاستجابة عند كل دعوة إثر تمهيد ما يستدعي الرحمة من كبر السن وضعف الحال فإنه تعالى بعد ما عود عبده الإجابة دهرًا طويلًا لا يكاد يخيبه أبدًا لاسيما عند اضطراره وشدة افتقاره، وفي هذا التوصل من الإشارة إلى عظم كرم الله عز وجل ما فيه.
وقد حكى أن حاتمًا الطائي، وقيل معنى بن زائدة أتاه محتاج فسأله وقال: أنا الذي أحسنت إليه وقت كذا فقال: مرحبًا بمن توسل بنا إلينا وقضى حاجته، وقيل المعنى ولم أكن بدعائك أياي إلى الطاعة شقيًا بل كنت ممن أطاعك وعبدك مخلصًا فالكاف على هذا فاعل والأول أظهر وأولى وروى ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، والتعرض في الموضعين لوصف الربوبية المنبئة عن إفاضة ما فيه صلاح المربوب مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام لاسيما توسيطهبين كان وخبرها لتحريك سلسلة الإجابة بالمبالغة في التضرع.
وقد جاء في بعض الآثار أن البعد إذا قال في دعائه: يا رب قال الله تعلى له: لبيك عبدي.
وروى أن موسى عليه السلام قال يومًا في دعائه: يا رب فقال الله سبحانه وتعالى له: لبيك يا موسى فقال موسى: أهذا لي خاصة فقال الله تبارك وتعالى: لا ولكن لكل من يدعوني بالربوبية وقيل: إذا أراد العبد أن يستجاب له دعاؤه فليدع الله تعالى بما يناسبه من أسمائه وصفاته عز وجل: {وَإِنّي خِفْتُ الموالى} هم عصبة الرجل على ما روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومجاهد، وعن الأصم أنهم بنو العم وهم الذين يلونه في النسب.
وقيل: من يلي أمره من ذوي قرابته مطلقًا، وكانوا على سائر الأقوال شرار بني إسرائيل فخاف عليه السلام أن لا يحسنوا خلافته في أمته، والجملة عطف على قوله: {إِنّى وَهَنَ العظم مِنّى} مترتب مضمونها على مضمونه فإن ضعف القوى وكبر السن من مبادي خوفه عليه السلام من يلي أمره بعد موته حسبما يدل عليه قوله: {مِنْ} فإن المراد منه بإجماع من علمنا من المفسرين من بعد موتي، والجار والمجرور متعلق بمحذوف ينساق إليه الذهن أي خفت فعل الموالي من ورائي أو جور المولى؛ وقد قرىء كما في إرشاد العقل السليم كذلك، وجوز تعلقه بالموالي ويكفي في ذلك وجود معنى الفعل فيه في الجملة، فقد قالوا: يكفي في تعلق الظرف رائحة الفعل ولا يشترط فيه أن يكون دالًا على الحدوث كاسم الفاعل والمفعول حتى يتكلف له ويقال: إن اللام في الموالي على هذا موصول والظرف متعلق بصلته وإن مولى مخفف مولى كما قيل في معنى أنه مخفف معنى فإنه تعسف لا حاجة إليه، نعم قالوا في حاصل المعنى على هذا: خفت الذين يلون الأمر من ورائي، ولم يجوز الزمخشري تعلقه بخفت لفساد المعنى، وبين ذلك في (الكشف): بأن الجار ليس صلة الفعل لتعديه إلى المحذور بلا واسطة فتعين أن يكون للظرفية على نحو خفت الأسد قبلك أو من قبلك وحينئذ يلزم أن يكون الخوف ثابتًا بعد موته وفساده ظاهر.
وبعضهم رأى جواز التعلق بناء على أن كون المفعول في ظرف مصحح لتعلق ذلك الظرف بفعله كقولك: رميت الصيد في الحرم إذا كان الصيد فيه دون رميك والظاهر عدم الجواز فافهم، وقال ابن جني: هو حال مقدرة من {خِفْتُ الموالى} وعن ابن كثير أنه قرأ {وَمِنْ} بالقصر وفتح الياء كمعصاء. وقرأ الزهري {خِفْتُ الموالى} بسكون الياء. وقرأ عثمان بن عفان وابن عباس وزيد بن ثابت وعلي بن الحسين وولداه محمد وزيد وسعيد بن العاص وابن جبير وأبو يعمر وشبيل بن عزرة والوليد بن مسلم لابن عامر {خِفْتُ} بفتح الخاء والفاء مشددة وكسر تاء التأنيث {الموالى} بسكون الياء على أن {خِفْتُ} من الخفة ضد الثقل ومعنى {مِن وَرَائِى} كما تقدم: والمراد وإني قل الموالي وعجزوا عن القيام بأمور الدين من بعدي أو من الخفوف بمعنى السير السريع ومعنى {مِن وَرَائِى} من قدامي وقبلي، والمراد وإني مات القادرون على إقامة مراسم الملة ومصالح الأمة وذهبوا قدامي ولم يبق منهم من به تقو واعتضاد فيكون محتاجًا إلى العقب لعجز مواليه عن القيام بعده بما هو قائم به أو لأنهم ماتوا قبله فبقي محتاجًا إلى يعتضد به، وتعلق الجار والمجرور على الوجه الثاني بالفعل ظاهر، وأما على الوجه الأول فإن لوحظ أن عجزهم وقلتهم سيقع بعده لا أنه واقع وقت دعائه صح تعلقه بالفعل أيضًا وإن لم يكن كذلك تعلق بغير ذلك.
{وَكَانَتِ امرأتى عَاقِرًا} أي لا تلد من حين شبابها إلى شيبها، فالعقر بالفتح والضم والعقم، ويقال عاقر للذكر والأنثى {فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ} كلا الجارين متعلق بهب واللام صلة له ومن لابتداء الغاية مجازًا، وتقديم الأول لكون مدلوله أهم عنده، وجوز تعلق الثاني بمحذوف وقع حالًا من المفعول الآتي. وتقدم الكلام في لدن، والمراد أعطني من محض فضلك الواسع وقدرتك الباهرة بطريق الاختراع لا بواسطة الأسباب العادية، وقيل المراد أعطني من فضلك كيف شئت {وَلِيًّا} أي ولدًا من صلبي وهو الظاهر. ويؤيده قوله تعالى في سورة آل عمران حكاية عنه عليه السلام {قَالَ رَبّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرّيَّةً طَيّبَةً} وقيل إنه عليه السلام طلب من يقوم مقامه ويرثه ولدًا كان أو غيره، وقيل: إنه عليه السلام أيس أن يولد له من امرأته فطلب من يرثه ويقوم مقامه من سائر الناس وكلا القولين لا يعول عليه.
وزعم الزمخشري أن {مِن لَّدُنْكَ} تأكيد لكونه وليًا مرضيًا ولا يخفى ما فيه. وتأخير المفعول عن الجارين لإظهار كمال الاعتناء بكون الهبة له على ذلك الوجه البديع مع ما فيه من التشويق إلى المؤخر ولأن فيه نوع طول بما بعده من الوصف فتأخيرها عن الكل وتوسيطهما بين الموصوف والصفة مما لا يليق بجزالة النظم الكريم، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن ما ذكره عليه السلام من كبر السن وضعف القوى وعقر المرأة موجب لانقطاع رجائه عليه السلام عن حصول الولد بتوسط الأسباب العادية واستيهابه على الوجه الخارق للعادة.